علم التوحيد.
وهو العلم بما لله من جميع صفات الكمال، وأنَّ الرب تفرَّد بها، وأنَّ له الكمال المطلَق الذي لا تقدر القلوب أن تبلغ كنهه، ولا الألسن على التعبير عنه، ولا يقدر الخلق على الإحاطة
ببعض صفاته فضلاً عن جميعها، وهذا العلمُ مبنيٌ على اعتقادٍ وعلمٍ وعلى تألُّهٍ وعملٍ. أما الاعتقاد والعلم، فأنْ يعتقد العبد أنَّ جميع ما وصف الله به نفسه من
الصفات الكاملة ثابتٌ لله على أكمل الوجوه، وأنَّه ليس لله في شيء من هذا الكمال مشارك، وأنَّه منزّهٌ عن كلِّ ما ينافي هذا الكمال ويناقضه، مما نزّه به نفسه أو نزّهه
رسوله صلى الله عليه وسلم.وأما التأله والعمل، فأن يتقرَّب العبد إلى ربه بأعماله الظاهرة والباطنة إلى الله، ويخلصها لوجهه وينيب إليه ويتألهه محبة
وخوفاً ورجاءً وطلباً وطمعاً، فيقصد وجهه الأعلى بما يعتقده من العقائد الصحيحة، وبما يقصده ويريده من الإرادات الصالحة والمقاصد الحسنة التابعة لأعمال القلوب،
وبما يعمله من الأعمال الصالحة الراجعة للقيام بحقوق الله وحقوق عباده، وبما يقوله ويتكلم به من ذكر الله والثناء عليه وقراءة كلامه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم،
وكلام أهل العلم الذي يرجع إلى ذلك، ومن الكلام الطيِّب والنُصح للعباد في أمور دينهم ودنياهم، ومن ذلك تعلمُ العلوم النافعة وتعليمُها، فكلُّ هذه الأشياء يجب إخلاصها لله وحده،
وبتمام الإخلاص يتم التوحيد والإيمان. فبهذا التقرير يكون التوحيد يرجع إلى أمرين: توحيد الأسماء والصفات، ويدخل فيه توحيد الربوبية، وهذا يرجع إلى العلم والاعتقاد.
وتوحيد الإلهية والعبادة، وهذا يرجع إلى العمل والإرادة، عملِالقلوب وعملِ الأبدان كما تقدم، ويسمَّى توحيد الإلهية، لأنَّ الإلهية وصف الباري تعالى، ويسمَّى توحيد العبادة لأنَّ العبادة وصف العبد الموحّد
المخلص لله في أقواله وأعماله وجميع شؤونه، والقرآن العظيم يكاد كلُّه أنْ يكون تقريراً لهذه الأصول العظيمة، ودفعاً لما يناقضها ويضادّها من التعطيل والتشبيه والتنقيص، ومن الشرك الأكبر والأصغر والتنديد.
وجوب تصديق الله ورسوله في كلِّ خبر وتقديم ذلك على غيره قال تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ } [آل عمران: 95] ، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } [النساء: 122] ،
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } [النساء: 87] {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [فاطر: 14] ، {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } [البقرة: 140] ، {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ } [الأنعام: 19] ،
{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } [النساء] ، {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [آل عمران] .
والآيات في هذا المعنى العظيم كثيرة، تدل أوضح دلالة، على أنَّ أفرض الفروض على العباد أن يصدقوا الله تعالى في كلِّ ما أخبر به عن نفسه من صفات الكمال وما تنزَّه عنه من صفات النقص
، وأنَّه أعلم بذلك من خلقه، وشهادته على ذلك أكبر شهادة، وخبره عن نفسه وعن جميع ما يخبر به أعلى درجات الصدق، وذلك يوجب للعبد أن لا يدخل في قلبه أدنى ريبٍ في أيِّ خبر يخبر الله به
وأن يُنَزِّلَ ذلك من قلبه منزلة العقيدة الراسخة التي لا يمكن أن يعارضها معارض ولا يعتريها شك. وأن يعلم علماً يقينياً أنَّه لا يمكن أن يَرِدَ شيءٌ يناقض خبر الله وخبر رسوله، وأنَّ كلَّ ما
عارض ذلك ونافاه من أيِّ علم كان، فإنَّه باطل في نفسه وباطل في حكمه، وأنَّه محالٌ أن يرد علم صحيح يناقض ما أخبر الله به، وتدل أكبر دلالة أنَّ من بنى عقيدته
على مجرد خبر الله وخبر رسوله فقد بناها على أساسٍ متينٍ،بل على أصل الأصول كلِّها،ولو فرض وقدِّر معارضةُ أيِّ معارضٍ كان، فكيف والأدلةُ العقليةُ والفطرية والأفقية والنفسيـة
كلُّها تؤيد خبر الله وخبر رسله وتشهد بصدق ذلك ومنفعته، ولهذا مدح الله خواص خلقه وأولي الألباب منهم حيث بنوا إيمانهم على هذا الأصل في قولهم:
{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا } [آل عمران: 193] ، {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [البقرة: 285] ،
{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ } [الزمر] . وعُلِمَ من ذلك أنَّ ابتداع أهل الكلام الباطل لأقوال وعقائد ما أنزل الله عليها من سلطان،
ولم تُبْنَ على الكتاب والسنّة، بل على عقولٍ قد عُلم خطأ أصحابها وضلالهم،أنَّه من أبطل الباطل وأسفه السفه، حيث رغبوا عن خبر الله وخبر رسله إلى حيث سوَّلت لهم نفوسهم الأمّارة بالسوء،
ودعتهم عقولهم التي لم تَتَزكَّ بحقائق الإيمان، ولا تغذت بالإيمان الصحيح واليقين الراسخ. يكفي هذا الأصل في ردِّ جميع أقوال أهل الزيغ بقطع النظر عن معرفة بطلانها على وجه التفصيل،
لأنَّه متى علمنا مخالفتها للقواطع الشرعية والبراهين السمعية علمنا بطلانها، لأنَّ كلَّ ما نافى الحق فهو باطل، وما خالف الصدق فهو كذب.