*** الخطبة الثانية ***
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى من اهتدى بهداه، إلى يوم الدين وبعد؛
بقي من الواجبات المبيتُ بمنى ليالي التشريق، ورمي الجمرات الثلاث، وذلك بعد الزوال وسط النهار من اليوم الحادي
عشر من ذي الحجة إلى الليل؛ الصغرى بسبع حصيات ويقف عندها ويدعو، ثم الوسطى بسبعٍ أخرى ويقف عندها ويدعو، ثم الكبرى
التي رجمت بالأمس، ترمى اليوم بسبعٍ أخرى ولا يقف عندها ولا يدعو، بل
ينصرف إلى منزله، وكذلك في ثاني أيام التشريق، على أن يغادر منى قبل غروب
الشمس لمن أراد التعجل.
فإن غربت وهو بمنى يضطر للبقاء في منى إلى أن يرمي الجمرات الثلاث في اليوم
الثالث من أيام التشريق، كما رماهنَّ في اليومين السابقين.
وعندما غادر الحاج منى ذهب إلى مسكنه بمكة، فاستراح قليلا، وفكر في العودة إلى من
ودَّعهم من أهله وجيرانِه، وأصحابِه وإخوانِه، وبعد أن دعا لهم في مكةَ
ومنىً وعرفات، تذكَّر أن يُدخِلَ عليهم السرورَ، بهديَّة رمزيَّة، تُذكِّر
بالأيام الطيِّبَةِ المرْضِيَّة، فاشترى هدايا مكونةً من مسواكٍ وطاقية، أو
ثوبٍ أو منديلٍ وغترةٍ وزجاجةٍ عطريَّة، أو لُعبةٍ لصبيٍّ أو صبيَّة، أو
تميراتٍ من المدينة النبويَّة، أو خيرٌ من ذلك كلِّه مصحف، وقارورةٌ من
ماءِ زمزمَ المغلّف وقبل.
الخروج من مكةَ راجعًا إلى موطنه أو زائرا إلى جدة؛ لا ينسى حاجُّنا أن
يطوفَ طوافَ الوداعِ، سبعةَ أشواط، دونَ رَمَلٍ أو اضطباع، بعدها يخرج
مباشرة من مكة، لا يؤخِّرُه إلا حزمُ أمتعته، وركوبُه في حافلته.
ويرغبُ حاجُّنا في زيارة المدينة المنورة،
ليصليَ في المسجد النبوي وقُباء، لينال من الله الأجرَ والثناء، وقد تحققت
رغبتُه؛ فصلى في المسجدين، وصلى وسلم على الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم،
وسلم على صاحبيه، وأخويه ووزيريه، أبي بكر الصديق، وعمرَ الفاروق،
وزار البقيعَ وشهداءَ أحد، وألقى عليهم التحية، ودعا لهم قائلا: "السَّلَامُ
عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ،
وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَلَاحِقُونَ، أَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَكُمُ
الْعَافِيَةَ". م (975)
وذهب
وذهب ليرى مسجد القبلتين، ولم يصلِّ تطوعا فيه، لعدمِ الفضيلةِ على غيرِه، كما
في المسجدين. فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ
تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ
الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَمَسْجِدِ الأَقْصَى". خ (1189)، م (1397).وقد «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ
رَاكِبًا وَمَاشِيًا» .. «فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ». خ
(1194) م (1399). ولم يذكر أيَّ مسجد آخر، في المدينة ولا في غيرها،
فحاجُّنا يريد السُّنَّةَ ليتَّبِعَها، لتَلقَى حَجَّتُه وزيارتُه القبولَ
والرضا عند الله الرحمن الرحيم.
وعندما علم حاجُّنا بحديث عن المدينة: «لَا
يَصْبِرُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا، فَيَمُوتَ، إِلَّا كُنْتُ لَهُ
شَفِيعًا -أَوْ شَهِيدًا- يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا». م (1370) تمنى أن يبقى بها ليموت فيها؛
فينال شفاعةَ النبي صلى الله عليه وسلم وشهادتَه ولكن؛.
لكل أجل كتاب، استعجله مسئوله، وناداه مناديه، ليؤذنَه بالرحيل، بعد أيام
قضاها بالمدينة بين مسكنه والمسجد النبوي من أحلا الأيام وأجملها، أحدثت في
القلب انبساطا، وفي الصدر انشراحا، وفي الوجه بشاشة، وفي الجسم رشاقة،
استعذب فيها الألم، ونسي التعب والمشقة والهمّ ودع.
المدينةَ بآخرِ صلاةٍ له فيها، تترقرقُ بالدموع عيناه، وخَفَقَ فؤادُه على
ألمٍ فراق الحبيب الخليل محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى الأمل والرجاء في
الله، سبحانه جلَّ في علاه، أن يعود مرات ومرات، انطلقت به راحلته، فلما
استوى عليها جالسا [كَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: «سُبْحَانَ
الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا، وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا
إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، اللهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا
هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللهُمَّ
هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللهُمَّ
أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللهُمَّ
إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ،
وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ»،... «آيِبُونَ تَائِبُونَ
عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ». م (1342) ووصل إلى المطار حيث تنتظره ناقلته، فوُزِنت أمتعته، وبعد الإجراءات المعتادة،
أقلعت طائرته، تمخُر عُبابَ الهواء، بين الأرض والسماء، وهو يدعو الله
ويذكرُه، وعلى نعمِه يحمَدُه ويشكُرُه، قائلا ما قاله رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ
حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الأَرْضِ ثَلاَثَ
تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: «لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ
لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا
حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ
الأَحْزَابَ وَحْدَهُ». خ(1797) وهذا الذكر يكرر أثناء الطريق حتى يصل إلى بلده وموطنه.
«اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عِيشَةً تَقِيَّةً، وَمِيتَةً سَوِيَّةً، وَمَرَدًّا غَيْرَ مُخْزٍ وَلا فاضِحٍ.
اللَّهُمَّ لا تُهْلِكْنَا فَجْأَةً، وَلا تَأْخُذْنَا بَغْتَةً، وَلا تُعْجِلْنَا عَنْ حَقٍّ وَلا وَصِيَّةٍ.
اللهم إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَفَافَ وَالْغِنَى، وَالتُّقَى وَالْهُدَى،
وَحُسْنَ عَاقِبَةِ الآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّكِّ
وَالشِّقَاقِ، وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فِي دِينِكَ، يَا مُقَلِّبَ
الْقُلُوبِ لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا
مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ».{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}. [العنكبوت: 45]
كتب وخطب وألف بين الكلمات والجمل: أبو المنذر فؤاد.
الزعفران المغازي الوسطى غزة
5/ 11/ 1433 هـ،
وفق: 21/ 9/ 2012م.
للتواصل مع الشيخ عبر البريد الالكتروني:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]